شفيق الحوت ...فارس ترجل
محمد العبد الله
هوى نجم ساطع من سماء الوطن. فقد غيب الموت قبل أيام قليلة "أبو هادر"، أحد الرجال/القادة الشرفاء في الحركة الوطنية المعاصرة. في سيرته الذاتية التي تضمنها كتابه الأخير "بين الوطن والمنفى: من يافا بدأ المشوار" الصادر قبل عامين، يأخذنا "الأستاذ شفيق" في رحلة الحياة : من البدايات إلى الحلم القابل للتحقق . لم ينس ابن مدينة يافا، عروس الساحل العربي الفلسطيني، هدير بحرها، وعبير زهور حمضياتها، ولم تحمل سنوات الدم والجمر والرصاص، التي عاشها منذ البدايات مابين يافا التي اقتلع منها، واللجوء لبيروت _التي تمتد جذور عائلته في ترابها_ سوى عبق تراب الوطن الذي ارتوى بدماء الشهداء، الذين كان دم شقيقه "جمال" الذي سقط عام 1948 وهو يقاوم تهويد فلسطين، سوى البوصلة التي حددت الهدف.
نمت بذور الاهتمام السياسي لدى الفتى اليافع في تربة المواجهة المباشرة مع المشروع الاستعماري الصهيوني/البريطاني، وساهم مع زملائة في "كلية العامرية" الثانوية في تأطير شكل النضال الطلابي في تأسيس "اتحاد الطلاب" الذي طوّر تجربته، وصاغ أهدافه، وحدد مهماته، من خلال الأفكار الوطنية التحررية.
في أواخر نيسان/ابريل 1948 لجأت العائلة لبيروت، ليحتضنها الأصل اللبناني للعائلة. في الجامعة الأمريكية التي درس فيها، والتي كانت بؤرة للنشاط التحرري، اليساري والقومي، تجذرت علاقته بالفكر الشيوعي، وتتالت نتيجة ذلك متاعب الشاب مع مؤسسات الدولة الأمنية، وإدارة الجامعة. فقد اعتقل في سنة 1950 بسبب قربه من الشيوعيين، وأطلق سراحه بعد أسبوع. لكن إدارة الجامعة اتخذت قراراً بحرمانه من الدراسة لمدة عام. ومع صعود المد القومي العربي بزعامة القائد جمال عبد الناصر، بما تركته نتائج تأميم قناة السويس، والعدوان الامبريالي الوحشي على مصر عام 1956، اقترب فقيدنا من الفكر القومي، بمضامينه التقدمية. وفي جدلية الترابط بين الفكر القومي واليساري، المتجذر في قضايا التحرر الوطني والاجتماعي، بقيت فلسطين في مركز الاهتمام والعمل داخل قلب وعقل الفقيد، الذي عبّر عن هذا الموقف في كل مجالات عمله، سواء في التدريس أو الصحافة، التي شكلت له منبراً سياسياً بامتياز. ومن أجل تنظيم قوى الشعب وحث الخطى باتجاه تحرير الوطن المحتل، عمل في عام 1963 على تأسيس "جبهة التحرير الفلسطينية" مع كوكبة من المثقفين والمهتمين الوطنيين، وأصدروا نشرة "طريق العودة" التي اقترن اسم الجبهة بها .
كان فقيدنا أحد أبرز الأعضاء في المؤتمرالوطني الذي عقد في 28 أيار 1964 في مدينة القدس، الذي انبثقت عنه منظمة التحرير الفلسطينية، التي أصبح ممثلاً لها في لبنان. بعد هزيمة حزيران 1967 تداعت قيادة "ج ت ف" لاجتماع استثنائي، اتخذت خلالها قرارها بحل التنظيم، ووقف اصدار "طريق العودة". وبهذا القرار تفرغ فقيدنا تماماً للنضال في صفوف منظمة التحرير. وقد مارس الفقيد دوراً مركزياً في مؤسسات المنظمة. فما بين عامي 1966ـ1968 و 1991ـ1993 كان عضواً في اللجنة التنفيذية للمنظمة، التي استقال من عضويتها، عندما جرى تبادل رسائل الاعتراف بين الكيان الصهيوني وقيادة المنظمة في 9/9/1993 وقد أعلن استقالته في 10/9/1993 أي قبيل توقيع اتفاق أوسلو بثلاثة أيام، وخاض حينها داخل جلسة المجلس المركزي للمنظمة حواراً صاخباً مع الراحل "ياسر عرفات" حول بنود ومضامين الاتفاق المشؤوم، الذي وصفه "أبو عمار" بأنه (ورد أحمر الخدين)، فرد عليه "أبو هادر" بالقول ( أخ أبو عمار، بحثت عن هذا الورد الأحمر الخدين، فلم أر إلاّ سعداناً أحمر الردفين).
بعد استقالته من مؤسسات المنظمة، أعطى الفقيد كل جهده للعمل على تطوير أشكال الحراك الشعبي الفلسطيني، بهدف تنظيم النضال الجماهيري من أجل العودة للوطن المحرر السيد. ولهذا كان في مقدمة المؤسسين لهذا العمل الذي تشكلت مؤتمراته الفاعلة في كل مناطق اللجوء والاغتراب . وكانت كلماته في هذا الجانب، تختصر حلمه( أنا لست عائداً فحسب، بل فلسطين عائدة إليّ أيضاً، إنها مسألة وقت مهما يَطلْ الزمن ). في خضم عمله من أجل مأسسة هذا الجهد الشعبي وتفعيله، ظل فقيدنا يناضل من أجل إعادة بناء منظمة التحريرعلى أساس ميثاقها القومي/الوطني، لتكون حاضنة للقوى الوطنية، والإطار الفاعل لكفاحها الوطني.
مابين منتصف كانون الثاني/يناير 1932 وأوائل آب/أغسطس 2009، تجربة حياة زاخرة، مفعمة بالعمل الدؤوب من أجل تحرير فلسطين ونهضة الأمة، ومسيرة كفاح لم توقفها المحاولات العديدة لاغتياله، والتي تعرض في واحدة منها 17 / 2 / 1967 للإصابة في ساقه.
غيب الموت القائد الكبير في وقت عصيب تعيشه قضيتنا وامتنا. ترجل الفارس العملاق في زمن تتكاثر فيه جماعات الأقزام كالطحالب، وتتناسل فيه تلك الكتل المترهلة، اللزجة، من الكائنات الحية، التي رسمها شهيدنا المبدع "ناجي العلي". رحل الرجل الشريف في زمن تتصدر المشهد فيه _ مؤقتاً _ مافيات السماسرة والفساد والعمالة والأمية.
في مسيرة كفاحة الطويلة، صاغ الفقيد عصارة فكره في مجموعة كبيرة من المقالات التي حملت هموم وطموحات "ابن البلد"، وأثرى المكتبة العربية بالكتب . فما بين كتابه اليسار والقومية العربية (1959)، وسيرته الذاتية في "بين الوطن والمنفى..." (الصادر عام 2007) نتعرف على الفكر الوطني الملتزم بقضايا الاشتراكية والتحرر والوحدة، التي يقول عنها ( ليست الايديولوجيات إلاّ سبيلاً لاسترداد هذا الوطن) .
خسرنا رجلاً استثنائياً، بقي صامداً في وجه كل رياح التنازلات الصفراء، لم يتزحزح عن ثوابته/ثوابتنا الوطنية والقومية. رحل_الكاتب، المقاتل، القائد _ وهو يحلم بتحرير فلسطين التاريخية، رافضاً كل أشكال العهر الرائجة.
غاب جسد شفيق الحوت، لكن روحه وفكره باقية فينا.
"حماس" تقاوم... "ثقافة العري" محمد علي الأتاسي : ( كلنا شركاء ) 5/8/2009
تدور في قطاع غزة منذ مدة معركة مستترة ترتبط بقضية فرض الحجاب على المرأة المسلمة، سواء تم الأمر بالإكراه الصريح أو بالإكراه المتلطي وراء ما يسميه الإسلاميون "الموعظة الحسنة". وإذا كانت حكومة "حماس" تحرص إلى يومنا هذا على تجنب سن القوانين الصريحة التي تفرض الحجاب على نساء غزة، فإنها مع ذلك لم تألُ جهداً للدفع في اتجاه إلغاء أي مظهر من مظاهر السفور داخل المجتمع الغزاوي. ففي مطلع الصيف الحالي، وتحديداً بتاريخ 12/6/2009 أطلقت وزارة الأوقاف والشؤون الدينية في الحكومة الفلسطينية المقالة برئاسة إسماعيل هنية حملة دعوية بعنوان "نعم للفضيلة" شملت جميع أرجاء قطاع "غزة" المحاصر والذي لا يزال يعاني من آثار العدوان الإسرائيلي، دماراً وتشريداً وغياباً للخدمات الأساسية من ماء وكهرباء ومرافق عامة. في هذا الوقت، لم تجد حكومة "حماس" أفضل من ملاحقة ما تسميه "تفشي بعض المظاهر غير الأخلاقية في قطاع غزة"! أما عن ماهية هذه المظاهر "غير الأخلاقية" في عرف "حماس" فقد دلت عليها البرقية التي وجهتها وزارة الداخلية إلى رئاسة مجلس الوزراء مناشدة إياها العمل الجاد من أجل ما سمته "صيفاً نظيفاً" في غزة. وقد نشر موقع "إسلام أون لاين" المقرب من تيار الأخوان المسلمين، مقاطع من هذه البرقية توضح ما يتوجب على الحكومة محاربته وفقا للعبارات الآتية: "بعض مظاهر الفساد بدأت تنتشر في المرافق العامة... سهرات ليلية مُختلطة... مقاهٍ مُغلّقة بداخلها إنترنت يخلو من المراقبة... اختلاط في الجامعات يرسم أسئلة الدهشة والقلق... تجاوزات أخلاقية في الشوارع والأسواق". وفي سياق النشاطات التي تتضمنها هذه الحملة، عمدت وزارة الأوقاف إلى طباعة مئات ألوف الملصقات (بوسترات) لتعلّق في المرافق العامة والجامعات والمدارس. ويبدو أنها طبعت في مصر وهُرِّبت إلى القطاع. وتحمل هذه الملصقات إلى جانب الأحاديث والآيات القرآنية التي تحض على الفضيلة، شعار الحملة وعبارة تشير إلى أنها برعاية وزارة الأوقاف - الإدارة العامة للوعظ والإرشاد. أما الرسوم الموجودة على الملصقات فإنها تجسّد شباباً في مقتبل العمر في ملابس رياضية، وهي تتناول مواضيع مختلفة مثل مكافحة التدخين والمخدرات ورفقة السوء ومواقع الانترنت الإباحية، وصولا إلى الحض على مقاطعة ما تسميه الملصقات "القنوات التلفزيونية الخبيثة التي تفسد الأسرة والأجيال القادمة"، وإلى جانب هذه العبارة وحديث الرسول "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته" المكتوبين بالخط العريض فوق رسم يمثل عائلة جالسة أمام شاشة التلفزيون، كتب في أسفل الصورة عبارة "قنوات ننصح بمشاهدتها" وإلى جانبها شعارات العديد من الأقنية التلفزيونية الإسلامية مثل "الأقصى" و"الرسالة" و"المجد" و"الناس" و"الرحمة". أما الملصق الأكثر تعبيرا عن ماهية هذه الحملة فهو ذلك المرتبط بحجاب المرأة. فعلى عكس ما قد يتبادر إلى الأذهان، فإن الملصق لا يتوجه إلى الفتيات السافرات اللواتي لا يضعن غطاء الرأس، كونهن بتن فئة نادرة الوجود بين نساء قطاع غزة بفعل الضغوط السياسية والمجتمعية الهائلة، لكنه يتوجه بالوعظ إلى الفتيات المحجبات بشكل يخالف ما ترتئيه وزارة أوقاف "حماس" بخصوص الحجاب. فالرسم يصور شياطين حمراً بقرون تشير إلى صورة فتاة محجبة بغطاء رأس كامل لا يظهر شيئا من شعرها أو عنقها أو صدرها، لكن ذنبها الوحيد أنها تلبس البنطال. وقد كتب في أعلى الصورة بالخط العريض "أحدث موضات الحجاب: صناعة شيطانية 100%". أما في أسفل الصورة فقد كتب إلى جانب الآية القرآنية التي ترد فيها كلمة "جلابيبهن" ويفسرها الإسلاميون على أنها دعوة للتحجب، العبارة الآتية: "حجابك الصحيح طريق جنتك" مع سهم يشير إلى رسم لفتاة بالجلباب! الطريف والمفجع في هذا السياق، هو الفوبيا التي تملكت بعض مسؤولي "حماس" بخصوص دمى عارضات الأزياء البلاستيكية التي تعرض في واجهات محلات الأزياء متبرجة ومرتدية ألبسة نسائية. فالشيخ يوسف فرحات المدير العام للإدارة العامة للوعظ والإرشاد في وزارة الأوقاف كان واضحا منذ البداية وصرح وفقاً لموقع "إسلام أون لاين"، أن حملة "نعم للفضيلة" ستنظم "زيارات ميدانية لمحال البيع الخاص بالنساء وإهدائهم نشرات دعوية تعالج بعض المخالفات التي تحدث في تلك المحال التجارية، ومحاولة القضاء على عرض الملابس الفاضحة خارج المحال، وظاهرة ما يعرف (بالمانيكان)، إضافة إلى الصور العارية". ولم يفت فرحات أن يبدي تفاؤله بنجاح الحملة وقال للمصدر نفسه: "إن غزة بطبعها مدينة محافظة وتخلو من العري والسفور" واستدرك: "شعارها الدائم: نعم للفضيلة، وبإذن الله سننجح في محو كل ما من شأنه التأثير على طهارة هذه المدينة". وقد أوردت وكالات الأنباء وبعض الصحف التي لديها مراسلون في غزة، أخباراً عن نزول دوريات من الشرطة وموظفي وزارة الأوقاف إلى الأسواق وتنقلهم من محل إلى آخر في سوق الزاوية وشارع عمر المختار الرئيسي في غزة مظهرين الملصقات التي أتينا على ذكرها. كما طلب وعاظ وملتحون من أصحاب المحلات إزالة الهياكل البلاستيكية لجسم المرأة المانيكان، وطالبوا بنزع صور العارضات من على المنتجات، بالإضافة إلى نزع الملابس الداخلية للنساء المعروضة في واجهة المحلات! ولتكتمل المهزلة فإن حل لغز الصور الآتية من أسواق قطاع غزة والتي تناقلتها وكالات الأنباء العالمية، وتبدو فيها مانيكانات العرض مرتديات المعاطف الطويلة ومقطوعات الرؤوس، جاء على لسان وكيل وزارة الأوقاف الحمساوية عبد الله أبو جربوع استنكاره في تصريح لـ"وكالة الصحافة الفرنسية" أن "يتم عرض دمية لأنثى عارية أمام المحال في مجتمع محافظ مثلنا، لذا نتوجه لصاحب المحل بالمعروف أن يرفعها أو يرفع عنها الرأس على الأقل حتى لا يكون فيها روح حسب سنّة رسولنا". ويبدو واضحا هنا أن الفوبيا الأصولية من جسد المرأة، لم تعد تتوقف على النساء من لحم ودم وروح وكرامة إنسانية، بل تجاوزته إلى دمى عارضات الأزياء البلاستيكية. وفي كلتا الحالتين فإن السلطة الأصولية الخائفة تنزع إلى ترك بصماتها على جسد الجنس الأضعف أو على جسد دمية لا روح لها ولا ذنب إلا كونها تحيل إلى الجسد الأنثوي وتذكر الأصولي بالفوبيا التي يحملها في داخله من هذا الجسد! المأساة أنه بينما يتلهى قادة "حماس"، تارة بنقاش وجود الروح أو عدمه في مانيكانات عارضات الأزياء، برأس أو من دون رأس، وتارة بمجاراة أترابهم من قادة السلطة الوطنية في الضفة في قمع المعارضين وملء السجون والإمعان في انتهاك حقوق الإنسان، تمضي إسرائيل قدما في سياسة قضم الأراضي والاستيطان وفي تأجيج الشرخ الفلسطيني وفي تأبيد الانقسام بين الضفة والقطاع. ويبدو أن حكومة "حماس" لم تكتفِ بفرض الحجاب بـ"الموعظة الحسنة" في صفوف طالبات المدارس والجامعات، وبإلغاء الاختلاط في الأعراس والمناسبات الاجتماعية، وبمنع النساء، حتى المحجبات منهن، من ارتياد الشواطئ من دون مَحْرم، بل تفتقت قريحة المستشار عبد الرؤوف الحلبي، رئيس المحكمة العليا ورئيس مجلس العدل الأعلى فأصدر قراراً بتاريخ 9 تموز المنصرم ينص فيه على ضرورة أن ترتدي المحاميات لدى ظهورهن أمام المحاكم النظامية زياً مخصوصاً يشمل إضافة إلى المعهود من كسوة من القماش الأسود المعروفة بـ "الروب" وسترة قاتمة اللون المعروفة بـ "الطقم - البانطو"، غطاء يحجب الشعر (المنديل) أو ما يماثله بحسب نص القرار. ووفقا للمنطق السفسطائي نفسه الذي يناقش في روح المانيكانات، فإن المستشار الحلبي حاجج في تصريحات إعلامية بأن كلمة حجاب لم ترد في نص القرار، وأن أكثر من 95% من المحاميات في القطاع يرتدين الحجاب والزي الشرعي، وبالتالي "لم يكن المقصود من القرار فرض أجندة إيديولوجية على المحاميات، بل من أجل أن تظهر كل المحاميات بالمظهر نفسه أمام المحاكم"، قبل أن يضيف "نحن لا نفرض عليها حجاباً أو منديلاً... فلترتدِ طاقية أو قلنسوة "! أما وزير العدل في حكومة غزة محمد فرج الغول فإن مخيلته كانت أوسع وقارن بين غطاء الرأس للمحامية وشعر الباروكة الأبيض المفروض على المحامين في بريطانيا "ليكون المحامي ظاهرا في موقف مهيب وكبير، وتكون له مهابة خاصة وشخصية خاصة في المحاكم". والحمد لله أن لا المستشار ولا وزير العدل، قد ناقشا إمكانية تغطية رأس المحامية بالكامل، لنزع الروح عنها على طريقة مانيكانات الأزياء منزوعات الرؤوس في واجهات المحلات في غزة! ولم يكن ينقص هذا الوضع السوريالي حتى يزيد الطين بلة، سوى استيقاظ ضمير الرجل الأبيض المستعمر الذي يمارس "القتل النظيف" بحق النساء والأطفال، ومن ثم يتباكى على أوضاع المرأة في المجتمعات المسلمة. ومن هنا جاءت تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي لم يتوانَ في كلمة ألقاها أمام عدد من الضباط العاملين في مجلس الأمن القومي، عن القول تعليقا على فرض غطاء الرأس على المحاميات في غزة، "أن هناك صراعا حضاريا في المنطقة ما بين النهج الأصولي والنهج التقدمي". وأضاف " في قطاع غزة، بدأت "حماس" العد التنازلي للسقوط. ومن سيسقطها هم الفلسطينيون أنفسهم الذين لم يعودوا يحتملون سياسة حكومة "حماس" القمعية. والدليل على هذا التراجع هو لجوء حكومة "حماس" إلى فرض الحجاب بالقوة على طريقة طالبان". وكما هي العادة، بلغت الوقاحة والكذب بنتنياهو، الذي تمنع دولته عن الفلسطينيين الواقعين تحت الاحتلال حق التنقل والسفر ومرور البضائع والأشخاص وصولا إلى منع مرور المواد الغذائية ومواد البناء، أن يتبجح ويقول إن "الإسلام الراديكالي سينهزم في النهاية أمام الثورة العلمية في العالم وأمام حرية تنقل الأفكار والتكنولوجيا". الجواب على اصطياد نتنياهو في الماء العكر بين الأطراف الفلسطينية المتصارعة وعلى شماتته من إجراءات "حماس"، أتى على لسان الناطق باسم "حماس" سامي أبو زهري ليخدم، كما هي العادة، نيات نتنياهو المبطنة. فالقيادي الفلسطيني اعتبر تصريحات نتنياهو "دليلا إضافياً على تواطؤ سلطة رام الله مع الاحتلال الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني والمقاومة"، قبل أن يقول بخصوص الحجاب "شعبنا من حقه أن يحافظ على تراثه وتقاليده. إن كان الاحتلال يحافظ على ثقافة العري، فالأَوْلى بالشعب الفلسطيني أن يحافظ على زيه الذي يتوافق وتقاليده وتراثه". ولم يفت أبو زهري، على جري عادة قادة "حماس"، أن يذكر في رده أن "ثقافة الالتزام بالزي المحافظ هي ثقافة أصيلة في الشارع الفلسطيني وليس لها أي قرارات أو قوانين". المأساة هنا أنه برغم ما يفترضه السيد أبو زهري من محافظة إسرائيل على ثقافة العري (هذا مع أن يهودها الأرثوذكس يجارون "حماس" تزمتا!) فإنها لا تزال قادرة على احتلال الأراضي العربية، ولا تزال متفوقة تكنولوجيا وعسكريا وصناعيا واقتصاديا على كل الدول العربية. قد يقول قائل إن الدعم الأميركي لإسرائيل هو السبب الرئيس لهذا التفوق، وهو بهذا محق لكن ذلك لا يمنعنا من ملاحظة أن ثقافة المانيكانات المكتسيات الجلباب والمجردات من رؤوسهن، لم تسمح لـ"حماس"، مع الأسف الشديد، إلا بإحراز نصرها المبين على قوات الأمن الوقائي الفلسطينية في غزة الغارقة هي الأخرى في فسادها وزبائنيتها. لقد قاوم آباؤنا وأجدادنا في الماضي المستعمر وحاربوا نظرته الاستعلائية الى ثقافتنا وقيمنا ونالوا في النهاية الإستقلال من دون أن يقف هذا عائقا أمام تبنيهم قيم الحداثة وانفتاحهم على بقية العالم ومضيهم قدما في معركة تحرير المرأة. إن معركة التحرر الوطني لا تتعارض مع حق الناس في التمتع بحريتهم الشخصية التي هي جزء لا يتجزأ من هذه المعركة، لا بل تكاد تكون الحريات الشخصية والاجتماعية شرطاً لازماً لتمكين المجتمع من تفجير طاقاته الكامنة وابتداع أساليب خلاقة في مقاومة المحتل وفي المضي قدما في نيل استقلاله الوطني. ما يحدث اليوم في غزة هو مختبر حقيقي لكيفية تعامل التيار الإسلامي مع القضايا المتعلقة ليست فقط بلباس المرأة ومكانتها بالمجتمع، ولكن بشكل أشمل مع القضايا المتعلقة بالحريات الاجتماعية والحريات الشخصية واحترام حقوق الأقليات وأساليب الحياة المتنوعة وحرية اختيار الملبس والمأكل والمشرب. أما مركزية القضية الفلسطينية وأولوية مقاومة المحتل وتحدي حصاره، فمن المفجع أن تكون مبررا للتضييق على الحريات الاجتماعية والشخصية، في حين أنه من الأَوْلى أن تكون دافعا إضافيا لصيانة هذه الحريات والمحافظة عليها. لقد ارتبط اسم فلسطين على الدوام بالتوق إلى الحرية، وسيكون من المؤسف أن تعمد الأيدي الفلسطينية إلى ربطه بوأد الحرية!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق